مقالة فلسفية هل التجربة شرط في كل معرفة
علمية ؟
هل التجربة شرط في كل معرفة علمية ؟
إذا كان تاريخ العلم مرتبطا بظهور المنهج التجريبي
الذي مكن العلماء من التحقق من صدق فروضهم، هل هذا يعني أن التجربة هي شرط المعرفة
العلمية ؟ وفي هذه الحالة ماذا نقول عن المعرفة الرياضية التي تعتبر معرفة علمية، ولا
تقوم على التجربة ؟ والمشكل المطروح هل المعرفة العلمية بالضرورة معرفة تجريبية أم
لا ؟ ليبدأ العالم بحثه بملاحظة ظاهرة غريبة فيتساءل عن سبب ظهورها، عندها يحاول أن
يجيب عن السؤال، ويكون هذا الجواب مؤقتا يحتمل الصدق والكذب إلى أن ينزل به إلى المخبر
ليجربه، وتكون التجربة بذالك عملية التحقق من صحة أفكارنا أو عدم صحتها عن طريق إعادة
بناء الظاهرة من جديد في ظروف اصطناعية بواسطة الفرض فلما لاحظ * كلوديرتارد* إن بول
الأرانب التي اشتراها من السوق صاف وحامض، وهاتان الصفتان خاصتان بآكلة اللحوم في حين
أن الأرانب آكلة عشب، يجب أن يكون بولها عكرا قلويا، افترض أن الأرانب كانت جائعة وأكلت
من أحشائها الداخلية، لكي يتأكد كلودبرنارد من فرضه هذا، اطعم الأرانب العشب، فكان
بولها عكرا قلويا، ثم تركها جائعة مرة أخرى وهذا هو الفرض الذي افترضه فأصبح بولها
صافيا حامضا، وهذه هي الظاهرة التي لاحظها وقد أعاد بناءها بواسطة الفرض الذي استنتجه
من الظاهرة نفسها غير أن العالم لا يقوم بتجربة واحدة وإنما يكرر التجربة عدة مرات
مع تغير شروطها للتحكم فيها أكثر، كما يعمد إلى تحليل الظاهرة وعزل مختلف شروطها لتبسيطها،
فإذا كانت الظاهرة في الطبيعة قد تختلط بغيرها من الظواهر، فان العلم في المخبر يعمل
على حذف الشروط التي لا تهمه، ليحتفظ فقط بالعناصر الأساسية للظاهرة التي يشير إليها
الفرض، والتي توجد في كل الحوادث التي لها نفس الخاصية، مما يمكنه من استخلاص النتائج
ثم تعميمها على الأجزاء وإذا توقف العالم عند مرحلة الفرض، ولم يستطع أن يثبت صحته
في الواقع، فان عمله لا يدرج ضمن المعارف العلمية، لأن العقل إذا كان يبني الأفكار،
فان الواقع هو الذي يحكم عليها إذا كانت صادقة أم لا، أن صحة المعرفة العلمية متوقفة
على عدم تناقض الفكر مع الواقع الأمر الذي لا يمكن التأكد منه إلا باستعمال التجربة
المخبرية، يقول كلودبرنارد إن الملاحظة هي جواب الطبيعة الذي تجوب به دون سؤال، لكن
التجربة هي استنطاق الطبيعة ويرى جون ستوارتمل
ان الملاحظة العلمية اذا كانت تثير فينا تساؤلات، فان التجربة قادرة على تقديم الإجابة
الحاسمة لها . ما يبدو واضحا لنا ان الانسان وكأنه جعل من بلوغ المعرفة العلمية الصحيحة
هدف وجوده وغايته، وكان عليه ان يعرف معيار هذا الصدق، فكان جوابه أن الصدق عكس التناقض
وكان قانونه أن المعرفة لا تكون علمية إذا كانت خالية من التناقض غير أن التناقض نوعان
: تناقض الفكر مع الواقع، وتناقض الفكر مع نفسه، وإذا كانت المعرفة في العلوم الطبيعية
و الإنسانية تجعل من التجربة وسيلة لتحقيق شرط عدم التناقض أحكامها مع الواقع، بل تجعلها
تتطابق معها، مادام الحكم يعود إلى الواقع، فأن المعرفة العقلية التي تمثلها الرياضيات
والمنطق لا تستعمل التجربة للتحقق من فروضها بصفتها علما مجردا، وإنما تستعمل البرهان
العقلي الذي يجعل الفكر لا يتناقض مع المبادئ والفرضيات التي وضعها، فإذا قلنا في الرياضيات
أن مجموع زوايا المربع 360 درجة فإننا لم ننقل هذا الحكم من الواقع كما يحدث في الفيزياء،
وإنما استنتجناه إستنتاجا منطقيا من المسلمة التي تقول أن مجموع زوايا المثلث 180 درجة
وإذا كان المربع ضعف المثلث، كانت مجموع زواياه تساوى 180x2 = 360 درجة غير أن الرياضي في بنائه للمعرفة الرياضية
وان كان يستعمل منهجا يختلف عن المنهج الذي يستعمله الفيزيائي فأنه يمر بنفس الخطوات
التي يمر بها العلم الطبيعي، فهو أولا يشعر بوجود مشكلة تستوجب الحل، لم يحددها وعندها
يستخلص الفروض الممكنة التي لا يتوقف عندها وإنما يحاول التحقق منها بالبرهان العقلي،
هذه المعرفة التي الرياضي لا تقل قيمة عن المعرفة التي يبينها الفيزيائي، إذ كلاهما
قبل أن يستخلص النتائج يتحقق من صحتها، وان كانت عملية التحقيق في العلوم التجريبية
مخبرية، وفي الرياضيات برهانية فإن غايتهما واحدة وهي الوصول بالفكر إلى حكم خال من
التناقض.
النتيجة : هكذا نستنتج أن التجربة شرط أساسي في المعرفة
العلمية لكنها ليست الشرط الكافي، فالمعرفة العلمية العقلية تقوم على البرهان العقلي
وليس على التجربة، لنقل في النهاية أن المعرفة نوعان معرفة علمية تجريبية ومعرفة علمية
عقلية.