هل
نحن ندين بتخيلنا الإبداعي لذواتنا أم لمحيطنا الاجتماعي ؟
مقالة جدلية
الدرس: الذكاء
و التخيل
الإشكال:هل نحن
ندين بتخيلنا الإبداعي لذواتنا أم لمحيطنا الاجتماعي ؟
يعد الفرد المبدع
هو ذلك الذي لا يقتفي أثر الأشياء الموجودة من قبل سواء بسواء , بل يأتي ببناء قلما
يتهيأ لسواه و كثير هم أولئك المبدعون من أدباء و فنانين و علماء ممن تحدثوا عن إلهاماتهم
الخاطفة و كأنها إفرازات لما يتمتعون به من قدرات فائقة حباهم الله بها يقول عالم الطبيعة
جلوس : ( و أخيرا نجحت لأنني بذلت جهودا مغنية و لكن بهبة من الله كأن إشراقا حدث فجأة
فحل اللغز ) , و لكن الإشكال لا يكمن في تعريف الإبداع و لكن في كيفيته ؟ أو بعبارة
أصح هل تكمن شروط الإبداع في ذواتنا أي نابعة من أنفسنا ؟ أم محيطنا الاجتماعي؟.
ترى مدرسة التحليل
النفسي و على رأسها فرويد أن الإبداع يعود إلى الكبت و ما هو إلا
تصعيد للميول المكبوتة فالسلوك لدى المبدع ما هو إلا إطلاق العنان للانفعال الحبيس
و أنه يستمد مادته من الأوهام و المثل المتحررة ( و هي تربط بأحلام اليقظة و مرحلة
الطفولة ) فالا شعور في نظرهم هو مصدر الإبداع لدى الفرد و كذا نحد المفكرين من حلل
ظاهرة الإبداع تحليلا نفسيا فذهبوا إلى أن الاختراع لسلة من الأعمال اللاشعورية أي
أن معظم عناصر تخيلاتنا تتجمع في اللاشعور و تخترق الصورة المبدعة في العقل الباطن
تنبثق دفعة واحدة و يرجعون كذلك الإبداع إلى جملة الخصائص الوراثية و النفسية التي
تهيئ الشخص لامتلاك مواهب ذهنية عالية ( كدقة الملاحظة و قوة الذاكرة و خصوبة الخيال
و الذكاء الثاقب …)و حجتهم في ذلك أن بعض البيئات الثقافية ملائمة للإبداع , و مع ذلك
لا يظهر لأنه لا يوجد عقل قادر عليه و هناك عباقرة ظهروا في بيئة اجتماعية غير ملائمة
كابن خلدون و غيره من العلماء المبدعين , و على شاكلة هذا الطرح نجد قديما الشيخ الرئيس
ابن سينا أنه كثيرا ما كان يجد حلولا لمشكلاته التي استعصت عليه أثناء النوم (الأحلام)
, كما يروي لنا تاريخ الأدب الإنجليزي أن الشاعر كولوردج غلبه النعاس ذات يوم وهو يطالع
ثم أفاق مضطربا مشبوب العاطفة و شرع يكتب إحدى قصائده الشهيرة فلما و صل إلى البيت
الرابع و الخمسين كف عن الكتابة و لم يستمر في قصيدته , كما يذكر العالم الرياضي الفرنسي
بوانكاريه (1854-1912) أن حلول مشكلاته الرياضية برزت فجأة و بعيدا عن ميدان عمله و
في مناسبات غير عادية , و يتضح لنا هذا من الأمثلة السابقة أن الإبداع كثيرا ما يلد
فجأة وبصورة مباشرة لذا يقرر أن كل صورة الإبداع مصحوبة بالعناصر الانفعالية , و أن
كل عناصر الانفعال تؤثر في الإبداع بالإضافة إلى هذا نجد نيوتن (1642-1727م) عندما
كتشف قانون الجاذبية قال إنني لأضع موضوع بحثي نصب عيني دائما و أنتظر حتى يلمح الإشراق
الأول على شيئا فشيئا لينقلب إلى نور جلي, و ما هذا إلا لشدة التفكير فيه مما يعكس
الدور النفسي الكبير في الإبداع .
وعلى الرغم من
كل هذه الحجج و البراهين إلا إنها ليست كافية لإقرارنا بالقبول أن الإبداع راجع فقط
للعوامل النفسية و لقد عالت مدرسة التحليل النفسي في تركيزها على اللاشعور كعامل أساسي
في الإبداع مهملة في ذلك الجوانب الأخرى , فالحشطالنية تعتبر الإبداع قدرة تنظيم و
تركيب المواقف لرؤية الأقسام الجزئية في ترابطها و ارتباطها بكيان كلي و عليه لا يمكن
اعتبار اللاشعور العامل الوحيد و الأساسي في الإبداع , و للتوجيه التربوي أثر في تنمية
الملكات الذهنية و توجيهها إلى حيث تبرز .
و على عكس الرأي
السابق يرى الاجتماعيون أن الفرد لا يبدع إلا في وسط اجتماعي تسمح ثقافتنا للشخص
بالإبداع فالحاجة الاجتماعية و متطلباتها هي التي اضطرت الإنسان للإبداع و تتقدم هذه
الحاجة دائما في شكل (مشكلة اجتماعية) تتطلب حلا مناسبا فإبداع الإنسان للطائرة أو
الحافلة أو الآلة الكاتبة كل هذا تقدم في شكل مشاكل اجتماعية خاصة لهذا يقول الفيلسوف
الفرنسي ريبو: (مهما كان الإبداع فريد فإنه يحتوي على نصيب اجتماعي)و لهذا فإن إبداع
الإنسان للأسلحة ووسائل الدمار و ابتكاراته التكنولوجية و أجهزته العلمية و مختلف وسائل
التقنية و مظهر من مظاهر متطلبات الحياة الاجتماعية , إما لدفع الضرر أو جلب المنفعة
ونجد دور هذا النافع في اليابان التي كانت مجرد دولة متخلفة قبل الحرب العالمية
(01) غير أن الحاجة لإثبات الوجود دفعت بعلمائها إلى البحث و التقصي و بذلك تكون الحاجة
أم الاختراع و مما يؤكد ذلك هو أننا نلاحظ أن كل اختراع لا يتم إلا إذا سمح الفكر الاجتماعي
به , فاليابان بما توفره من شروط اجتماعية أي من وسائل و تقنيات تفرض على الفرد الياباني
أن يبدع في جميع الميادين حتى يبقى هو سيد أوضاعه بالإضافة إلى كل هذا نجد يونغ و إن
كان يتفق مع فرويد في القول باللاشعور إلا أنع يعتبره فرديا و جمعيا و اللاشعور الجمعي
في رأيه هو مصدر الأعمال الفنية العظيمة و هكذا نلاحظ أن للوسط الاجتماعي تأثير كبير
في صور و أساليب الإبداع و أشكاله حيث أن الواقع الاجتماعي و ما فيه من علماء و فلاسفة
و جامعات إنما يفرض بواسطة هؤلاء نمطا فكريا على أفراده فلم يكن بإمكان العالم الفيزيائي
الإنجليزي ماكسويل مثلا أن يكتشف الأمواج الكهرومغناطيسية و بسرعة انتشارها في القرن
العاشر لأن هذا الاكتشاف يقوم على الأبحاث و خصائص و مناهج و نظريات لم تكن موجودة
في مجتمعات القرن العاشر و يتضح لنا أن المسائل العلمية يجب أن تتهيأ معها أسباب الاختراع
و الإبداع و خاصة منها الاجتماعية التي تعمل على تحريضه وقد تؤد هذه الأسباب إلى تحقيق
الإبداع في بلد دون الآخر و في زمان دون غير هو خلاصة القول هو يجب أن يكون لكل إبداع
محيط اجتماعي ينبت فيه .
هذا الرأي هو
الآخر لم يصمد للنقد بحيث أن رد هذه المدرسة الإبداعية للمجتمع و قيمه أمر ينطوي على
مغالاة لأنها تهمل دور العوامل النفسية , وإذا كان الأمر كذلك فكيف نفسر خروج الكثير
من المبدعين عما هو سائد من معايير و قيم في مجتمعاتنا ليبدعوا قيم و معايير جديدة
يفرضونها على الجماعة , و كذلك نجد تاريخ المبدعين في حقب خلت حافل بالأمثلة الدالة
على ما لقيه بعضهم من عنت و إساءة من المجتمع.
إن النظريتين
السابقتين اللتان أشرنا لهما تؤكدان أن الإبداع مشروط بشروط نفسية (ميولات) و اجتماعية
( قيم ) تؤثر فيه و توجهه ذلك أن الإبداع ليس مجرد إلهام مفاجئ أو عملية حدسية كشفية
أو ظاهرة لا شعورية بل أنه صلة عميقة بالحياة في جوانبها النفسية و الاجتماعية.
و خلاصة القول
أن الأهمية لا تكمن في ماهية شروط الإبداع بل في أهميته , بحيث أنه يمثل الطفرة , النوعية
للمجتمعات كذلك أن كل إبداع يتوقف على عمل قادر عليه و على حوافز و أعداد قد تستغرق
سنوات من الدراسات و البحوث و ما علينا إلا أن نقول في الختام إلا قول القائل: (قد
لا يكون لدى المرء أجمل من مخيلة خصبة يمتلكها , و قد لا يكون ثمة أقسى و أكثر إيلاما
للفرد من خيال طائش جموح) .
--------------------------------------------------------------------------------------------------